فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَمَا يَجِبُ أَنْ يُعَامَلُوا بِهِ، وَأَهَمُّ ذَلِكَ أَحْوَالُهُمْ وَمُعَامَلَتُهُمْ فِي وَقْتِ الْقِتَالِ؛ وَلِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ ذُكِرَتْ أَحْكَامٌ وَحِكَمٌ، وَمَوَاعِظُ كَثِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْقِتَالِ وَالْهِجْرَةِ وَالْأَمَانِ، وَقَتْلِ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ، وَصَلَاةِ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ، وَقَدْ أَكَّدَ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَمْرَ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهَذَا سِيَاقٌ بُدِئَ مِنَ الْآيَةِ [60] وَانْتَهَى إِلَى الْآيَةِ [104].
بَعْدَ هَذَا جَاءَتْ آيَاتٌ فِي خِطَابِ الرَّسُولِ بِالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى وَاقِعَةٍ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُحَابِيَ الرَّسُولُ فِيهَا بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعَقَّبَهَا بِمَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَقَامَ مِنَ الْوَعْظِ وَالْوَعِيدِ، وَلَاسِيَّمَا وَعِيدُ مَنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، ثُمَّ مَسْأَلَةُ جَوَازِ الْمَغْفِرَةِ لِمَا عَدَا الشِّرْكَ يَتْبَعُهَا بَيَانُ شَيْءٍ مِنْ ضَلَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، ثُمَّ بَيَانُ أَنَّ أَمْرَ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ مَنُوطٌ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ، لَا بِالْأَمَانِيِّ وَالِانْتِسَابِ إِلَى دِينٍ شَرِيفٍ وَنَبِيٍّ مُرْسَلٍ. فَكَانَتْ أَحْكَامُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَوَاعِظُهَا فِي شُئُونِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا، وَمَزَايَا الْإِسْلَامِ؛ وَلِذَلِكَ خَتَمَهَا بِبَيَانِ حُسْنِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ، وَهُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَى فَضْلِهِ عِنْدَ هَذِهِ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا، وَيَمْتَدُّ هَذَا السِّيَاقُ إِلَى الْآيَةِ [125].
تَلَا ذَلِكَ آيَاتٌ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ وَالْيَتَامَى، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ، وَنُشُوزِ النِّسَاءِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ وَتَفَرُّقِهِمْ، دُعِّمَتْ بِآيَاتٍ فِي الْوَصِيَّةِ بِالتَّقْوَى وَالتَّذْكِيرِ بِاللهِ تَعَالَى وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَالْأَمْرِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ، وَلَوْ عَلَى الْأَقْرَبِينَ وَالْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ وَلَا شَفَقَةٍ، وَذَلِكَ فِي نَحْوٍ مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ.
ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكَلَامِ فِي أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، بَعْدَ التَّمْهِيدِ لَهُ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَذِكْرِ أَرْكَانِهِ وَوَعِيدِ الَّذِينَ يَتَقَلَّبُونَ وَيَتَذَبْذَبُونَ فِيهِ، فَذَكَرَ مُوَالَاتَهُمْ لِلْكَافِرِينَ وَسَبَبَهَا وَمَنْشَأَهَا مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَمُخَادَعَتَهُمْ لِلَّهِ وَوَعِيدَهُمْ وَجَزَاءَهُمْ، وَجَزَاءَ مَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ مِنْهُمْ، وَجَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَقَدِ انْتَهَى ذَلِكَ بِالْآيَةِ [147] وَهِيَ آخِرُ الْجُزْءِ الْخَامِسِ.
ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ. فَافْتُتِحَ بِحُكْمِ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَكَوْنِ الْأَصْلِ فِيهِ الْقُبْحُ وَالذَّمُّ، وَحُسْنُ مُقَابِلِهِ وَهُوَ إِبْدَاءُ الْخَيْرِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَبَعْدَ هَذَا ذَكَرَ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ بِدَعْوَى الْإِيمَانِ بِبَعْضٍ وَالْكُفْرِ بِبَعْضٍ، وَبَيَانُ عَرَاقَةِ هَذَا فِي الْكُفْرِ، وَمَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْجَمِيعِ، وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانِ مُشَاغَبَةِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحُجَّتُهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمُعَانَدَةِ مُوسَى، وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَنَقْضِ مِيثَاقِ اللهِ، وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِيذَاءِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَالِافْتِخَارِ بِدَعْوَى قَتْلِهِ، وَخَتْمِ ذَلِكَ بِبَيَانِ حَالِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ فِي نِصْفِ حِزْبٍ يَنْتَهِي بِالْآيَةِ [162].
بَعْدَ هَذَا أَقَامَ اللهُ حُجَّتَهُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ خَاتَمِ رُسُلِهِ بِكَوْنِ وَحْيِهِ إِلَيْهِ كَوَحْيِهِ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنْهُمْ، وَكَوْنِهِ بَعَثَ الرُّسُلَ إِلَى كُلِّ الْأُمَمِ، أَيْ: فَلَمْ يَجْعَلْهُ خَاصًّا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَوْنِهِ تَعَالَى يَشْهَدُ بِمَا أَوْحَاهُ إِلَى رَسُولِهِ؛ إِذْ جَعَلَهُ مَقْرُونًا بِالْعِلْمِ الْأَعْلَى، مُنَزَّلًا عَلَى الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا، وَخَتَمَ هَذَا بِبَيَانِ حَالِ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ، وَغَايَتِهِ الَّتِي يَأُولُ إِلَيْهَا، وَدَعْوَةِ النَّاسِ كَافَّةً إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ. فَتَمَّ هَذَا السِّيَاقُ بِبِضْعِ آيَاتٍ.
ثُمَّ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى النَّصَارَى وَإِبْطَالِ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ، وَإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَبَيَانِ مَا هُوَ الْمَسِيحُ، وَخَتْمِهَا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَبَيَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ تَعَالَى بُرْهَانٌ، وَكِتَابَهُ نُورٌ، وَدَعْوَةِ النَّاسِ كَافَّةً إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِمَا، وَوَعْدِ مَنِ اعْتَصَمَ بِهَذَا الْكِتَابِ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ الْإِلَهِيَّيْنِ، وَهِدَايَةِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَصِلُ سَالِكُهُ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، وَهَذَا هُوَ خَتْمُ هَذِهِ السُّورَةِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي بَيَّنَ اللهُ فِيهَا أُصُولَ الْحُكُومَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَهَمَّ فَرَائِضِهَا وَأَحْكَامِهَا، وَنَاهِيكَ بِأَحْكَامِ النِّسَاءِ وَالْأَهْلِ وَالْمَوَارِيثِ وَالنِّكَاحِ وَحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْإِيمَانِ وَالشِّرْكِ وَالتَّوْبَةِ وَالْقِتَالِ، وَشُئوُنِ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَدَحْضِ شُبُهَاتِهِمْ، فَهِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ الطِّوَالِ فَوَائِدَ وَأَحْكَامًا وَحُجَجًا.
وَأَمَّا الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْهَا، فَهِيَ ذَيْلٌ لِلسُّورَةِ فِي فَتْوَى مُتَمِّمَةٍ لِأَحْكَامِ الْفَرَائِضِ الَّتِي فِي أَوَائِلِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ الْحِكْمَةَ فِي أُسْلُوبِ الْمَزْجِ فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا فَائِدَةُ الْأَحْكَامِ أَوِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُجْعَلُ ذَيْلًا أَوْ مُلْحَقًا لِكِتَابٍ أَوْ قَانُونٍ؛ فَهِيَ أَنَّ الذِّهْنَ يَتَنَبَّهُ إِلَيْهَا أَفْضَلَ تَنَبُّهٍ، فَلَا يَغْفُلُ عَنْهَا كَمَا يَغْفُلُ عَمَّا يَكُونُ مُنْدَمِجًا فِي أَثْنَاءِ أَحْكَامٍ أَوْ مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، فَكَأَنَّ جَعْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مُفْرَدَةً عَلَى غَيْرِ فَوَاصِلِ السُّورَةِ يُرَادُ بِهِ تَوْجِيهُ النُّفُوسِ إِلَيْهَا لِئَلَّا تَغْفُلَ عَنْهَا، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ صَارَ مَأْلُوفًا هَذَا الْعَصْرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أُمَمِ الْعِلْمِ، حَتَّى فِي الْمُرَاسَلَاتِ الْخَاصَّةِ يَجْعَلُونَ لِلرِّسَالَةِ ذَيْلًا يُسَمُّونَهُ حَاشِيَةً، كَمَا يَكُونُ مِمَّنْ نَسِيَ مَسْأَلَةً ثُمَّ تَذَكَّرَهَا بَعْدَ إِتْمَامِ الرِّسَالَةِ وَإِمْضَائِهَا بِكِتَابَةِ اسْمِهِ فِي آخِرِهَا، وَهُمْ يَتَعَمَّدُونَ ذَلِكَ كَثِيرًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْغَرَضِ، وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
يقولُ مُحَمَّد رَشِيد مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ: قَدْ وَفَّقَنِي اللهُ تَعَالَى لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ (1331هـ) وَإِيَّاهُ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ كِتَابِهِ، وَيُؤَيِّدَنِي فِيهِ بِرُوحِ الْحَقِّ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}
والاستفتاء هو طلب الفتيا. ومعناها إرادة معرفة حكم شرعي لله في أمر لا يجد السائل علمًا له فيه. وكان الصحابة يستفتون رسول الله، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: «ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».
وجاء القرآن في كثير من الآيات بـ {يسألونك}. كأن الحق يعلمنا أن الصحابة أرادوا أن يثبتوا أنهم أحبوا منهج الله فأرادوا أن يبنوا حياتهم كلها على منهج الله، ولو كانوا قد كرهوا منهج الله لما سألوا، لقد وجدوا أن الإسلام قد جاء، ووجد أشياء الجاهلية وأقرها، ووجد أشياء قام بتغييرها؛ ولم يرد الصحابة أن يصنعوا الأشياء على أنّها امتداد لصنع الجاهلية، بل أرادوا أن يصنعوها على أنها حكم للإسلام؛ لذلك جاءت أسئلتهم الكثيرة. والفتوى تكون في حكم. والسؤال يكون في حكم وفي غير حكم. وهم يطلبون الفتوى في الكلالة، ودقة القرآن في إيجاز السؤال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} وقد تقدم من قبل الحديث عن الكلالة: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً} [النساء: 12]
إلا أن الذي تقدم هناك كان عن الصلة من ناحية الأم، وسؤال جابر بن عبدالله كان عن الصلة من ناحية الأب.
فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: مرضت مرضا فأتاني النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما ماشيان فوجداني أغمي عليّ، فتوضا النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم صبّ وَضوءه عليّ فأفقت فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث.
وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فأنزل الله آية الفرائض. وبعض العلماء قال: إن كلمة {كلالة} مأخوذة من كلال التعب؛ لأن الكلالة في الشرع هو من ليس له ولد ولا والد، والإنسان بين حياتين؛ حياة يعولها والد، وعندما يكبر ويضعف تصير حياته يعولها ولد؛ لذلك فالذي ليس له والد ولا ولد يعيش مرهقًا؛ فليس له والد سبق بالرعاية، وليس له ولد يحمله في الكبر؛ لذا سمي بالكلالة.
وبعضهم قال: إنها من الإكليل؛ أي التاج. وهو محيط بالرأس من جوانبه والمقصود به الأقارب المحيطون بالإنسان وليس لهم به صلة أعلى أي من الآباء، أو من أدنى أي من الأبناء.
{إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ} أي أن الكلالة هي أن يموت أحد وله أخت شقيقة أو أخت من أب فهي ترث النصف؛ وإذا ماتت هذه الأخت فالأخ يرثها سواء أكان شقيقًا أم أخًا لأب.
وإن ترك الرجل الكلال أختين أو أكثر فلهما الثلثان مما ترك ذلك الأخ. وإن كان له إخوة من رجال ونساء، فها هوذا قول الحق: {وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين}. أي أن للذكر من الأخوة مثل حظ الأنثيين.
ويختم الحق الآية: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
أي أنه الحق يبين أحكامه خشية أن يصيب القوم الضلال. وقد علم سبحانه أزلًا بكل سلوك، وكل خافية، وهو العليم أبدًا بما ينفع الناس جميعًا. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي وَقْتِ نُزُولِهَا: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةَ، وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ عَنْ «جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَرِضْت وَعِنْدِي تِسْعُ أَخَوَاتٍ لِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَضَحَ فِي وَجْهِي مِنْ الْمَاءِ، فَأَفَقْت فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَلَا أُوصِي لِأَخَوَاتِي بِالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: أَحْسِنْ.
قُلْت: بِالشَّطْرِ؟ قَالَ: أَحْسِنْ ثُمَّ خَرَجَ وَتَرَكَنِي ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَا أَرَاك مَيِّتًا مِنْ وَجَعِك هَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الَّذِي لِأَخَوَاتِك فَجَعَلَ لَهُنَّ الثُّلُثَيْنِ»
.
وَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ: نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ قَتَادَةُ: وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: أَلَا إنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ شَأْنِ الْفَرَائِضِ نَزَلَتْ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ أَنْزَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ النِّسَاءِ فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ الْأَنْفَالِ أَنْزَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَمَا جَرَّتْ الرَّحِمُ مِنْ الْعَصَبَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: «نَزَلَتْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ لَهُ، وَإِلَى جَنْبِهِ حُذَيْفَةُ، فَبَلَّغَهَا حُذَيْفَةُ وَبَلَّغَهَا عُمَرُ، وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَهُ، فَلَمَّا اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ سَأَلَ حُذَيْفَةَ عَنْهَا، وَرَجَا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ تَفْسِيرُهَا، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: وَاَللَّهِ إنَّك لَعَاجِزٌ».
هَكَذَا قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي رِوَايَتِهِ.
وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِيهَا: وَاَللَّهِ إنَّك لَأَحْمَقُ إنْ ظَنَنْت أَنَّ إمَارَتَك تَحْمِلُنِي عَلَى أَنْ أُحَدِّثَك بِمَا لَمْ أُحَدِّثْك يَوْمئِذٍ.
فَقَالَ عُمَرُ: لَمْ أُرِدْ هَذَا رَحِمَك اللَّهُ، وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُك عَلَيْهَا شَيْئًا أَبَدًا؛ فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ مَنْ كُنْت بَيَّنْتهَا لَهُ فَإِنَّهَا لَمْ تَتَبَيَّنْ لِي.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «عُمَرَ نَازَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ: يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَإِنْ أَعِشْ فَسَأَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءٍ يَعْلَمُهُ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ لَا يَقْرَأُهُ، وَهُوَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ».
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَعْنَى الْآيَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى فَكَانَ مَوْرُوثًا كَلَالَةً، فَلِأُخْتِهِ النِّصْفُ فَرِيضَةً مُسَمَّاةً.
فَأَمَّا إنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أُنْثَى فَهِيَ مَعَ الْأُنْثَى عَصَبَةٌ يَصِيرُ لَهَا مَا كَانَ يَصِيرُ لِلْعَصَبَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غَيْرَ مَحْدُودٍ بِحَدٍّ، وَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ: إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَلَا شَيْءَ لِأُخْتِهِ مَعَهُ؛ فَيَكُونُ لِمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَجْهٌ؛ إذْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ الْمَيِّتَ إذَا تَرَكَ بِنْتًا فَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا أَخٌ ذَكَرٌ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَقَّهَا إذَا وَرِثَتْ الْمَيِّتَ كَلَالَةً، وَتَرَكَ بَيَانُ مَا لَهَا مِنْ حَقٍّ إذَا لَمْ يُورَثْ كَلَالَةً؛ فَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَحْيِ رَبِّهِ، فَجَعَلَهَا عَصَبَةً مَعَ إنَاثِ وَلَدِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ وِرَاثَتَهَا فِي الْمَيِّتِ إذَا كَانَ مَوْرُوثًا عَنْ كَلَالَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}: مَعْنَاهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَضِلُّوا، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ مَنْ أَرَادَهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فَإِنْ قِيلَ: وَأَيُّ ضَلَالٍ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا؟ وَلَمْ يَعْلَمْهَا عُمَرُ وَلَا اتَّفَقَ فِيهَا الصَّحَابَةُ وَمَا زَالَ الْخِلَافُ إلَى الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ.
قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا ضَلَالًا، وَهَذَا هُوَ الْبَيَانُ الْمَوْعُودُ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ طُرُقَ الْأَحْكَامِ نَصًّا يُدْرِكُهُ الْجَفْلَيْ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مَظْنُونًا يَخْتَصُّ بِهِ الْعُلَمَاءُ لِيَرْفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، وَيَتَصَرَّفُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي مَسَالِكِ النَّظَرِ، فَيَدْرِك بَعْضُهُمْ الصَّوَابَ فَيُؤْجَرُ عَشَرَةَ أُجُورٍ، وَيُقَصِّرُ آخَرُ فَيُدْرِكُ أَجْرًا وَاحِدًا، وَتَنْفُذُ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَاوِيَّةُ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِلْعُلَمَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.